Friday, December 25, 2015

الفصل الثالث: شاهد على المسيرة التاريخية

بقلم الدكتورعزت السيد أحمد ,رئيس قسم الفلسفة في جامعة تشرين

1- أمام مرآة الخطاب

 "يقيناً إن مسيرة كل إنسان لم تجر دائماً على بساط ممهد سهل، إذ إن كثيراً من العقبات والأزمات أعاقت هذه المسيرة التي كانت غالباً، شاقة وصعبة. حتى بات حجم النجاح يعادل في الواقع حجم الصعوبات. فإن كان من كتابة عن أولئك الذين أغنوا مسيرتهم بالمنجزات، فإنها كتابة عن صمودهم وتحديهم لجميع الإعاقات، كتابة بالتالي عن النجاح في تحقيق رسالتهم التي تفردوا بإعدادها وتنفيذها. ومع ذلك فإن بعض الإحراج يعتري دائماً من يكتب في سيرة عفيف البهنسي وعن مساراته، فهو يعتقد دائماً أنه لم يكن البطل الذي يقهر كل التحديات، وليس هو فرد عصره الذي لا نظير له في مجاله، ولكنه حريص أن يسرد التاريخ حصيلة جهده، لعله يكون مثالاً ، أو لعله يستطيع أن يجلي بعض الغموض واللبس في فهم إنجازاته.
أن أختصر الحديث عن فعاليته التي استمرت ثمانية عقود في عدد محدود من الصفحات، يبقى أمراً صعباً، ومع ذلك فإن ثمة إنجازات تسعفني في تلخيص هذه المسيرة الصعبة والممتعة، والتي ابتدأت منذ الخطوة الأولى وأنا مدرك السمت الذي سيوصلني إلى هدفي. "

                                            
2- عبر تاريخه الإداري
 
    "أمام مرآة عرضها عقود طويلة  من عمره ، وقفت أبحث عن ذاته من خلال السنين، فلم أجد أصدق من الكتب والدراسات والمحاضرات التي حملت عبء أفكاره ومصادره الثقافية , التي وثّقت رؤيته النظرية في مجال الفن والعمارة وفي موضوع الإبداع والتراث وعلم الجمال العربي.
   وإنني لأشهد أن هذا الإنسان الذي تنعكس صورة حياته في مرآة عطائه ، هو إنسان بسيط واضح، ولكن طموحه أكبر حجما" من عمره، فالزمن الذي يعيشه لا يمكن ان يحسبه تقويم الأيام و السنين، و إنما يحسب بتقويم ما أنجزه.

وإذا ذكرت شيئا" عن الطموح فلا أعني به طموح المكاسب بل هو طموح العطاء، أتراني سأنصف هذا الباحث الجمالي الذي أحتار الآن من أي موقع سأستوقفه لأحاوره وأحاسبه.
   اًترانّي سأراه من خلال مرآة محدبة أدخل من خلالها إلى عقله وإلى روحه، لا، يكفيني أن أقف أمام مرآة عطائه لأستشف دونما مبالغة أو شفعة، كشف هوية الإنسان الذي آمن بالحب أولاً وبالعمل ثانياً وبالوجدان ثالثاً.
طريق طويل شائك صعب، ولكنه مستقيم ينتهي بهدف كبير، أسير فيه وأنا أتابع سيرته، منذ أن ولد في دمشق عام 1928 إلى أن وقفت اليوم أمام مرآة زمانه في مكتبته العريضة.
   في بيئة ثقافية تنتمي إلى أجداد من الفقهاء والشعراء والمؤرخين، نشأ ترافق حياته صعوبات العيش في ظروف الانتداب و الثورة، وفي ظروف الحرب العالمية الثانية، وكانت هذه الظروف سبباً في انخراطه مع أقرانه من طلاب المدارس الابتدائية والثانوية، بالعمل القومي مشاركا" في المظاهرات والندوات المعارضة، ولقد شهد عام 1945 سقوط زميله قتيلاً برصاص الفرنسيين، فعرف بعد ذلك أن الحرية لا تعطى بل تؤخذ بالتضحية والفداء ، وكان طموحه أن ينتسب إلى الكلية العسكرية، فهي الطريق لترسيخ الحرية وتحقيق الوحدة العربية التي ما يزال يراها مصيراً محتماً لا بد من تعجيل إنجازه.
ولم يتحقق أمله أن يكون عسكرياً ممتهناً،  ولكنه دخل الجندية من باب الخدمة الإلزامية التي امتدت سنوات، وكانت مشاركته في حرب تشرين من أجّل لحظات حياته، ومن الجبهة كان يراسل جريدة الثورة يومياً، وما زالت العناوين الكبرى تتصدر صفحات الجريدة المحفوظة في مركز الوثائق تتحدث عن انطباعات مباشرة للانتصارات التي حققها المقاتل العربي في معركة الكرامة، التي قضت على أسطورة التفوق الإسرائيلي.
  
 لست أدري لماذا توقفت صورة هذا الرجل، الماثل أمامي في مرآة حياته، وهو يرتدي بزة عسكرية، أكان ذلك بوحاً صريحاً برغبته بامتهان العسكرية أم كان إثباتا لقوله " ثمن الحرية الشهادة ". ولعل الجواب تعبر عنه لحظة انفجار صاروخ على مقربة منه تجمعت شظاياه حوله وحال دون اختراقها جسمه كيس من الرمل. كانت هذه اللحظة تعادل الشهادة فعلاً، وما زالت شظية فولاذية تذكارية أقامها على قاعدة خشبية أصبحت كتمثال من الفن التجريدي ،تزين مكتبه ،تذكره أبداً بالشهادة التي لم يمنَ بها

   "لأول مرة تنشا في دمشق وزارة للثقافة، وعلى حداثته دعي للمشاركة في تكوين هذه الوزارة مع لفيف من كبار المثقفين ، وعهد إليه بمنصب مدير الفنون الجميلة.

  من منبر هذا المنصب استطاع أن يوسع نشاطه الفني الذي ابتدأه منذ أن أسس جمعية للفنون الجميلة مع لفيف من الفنانين الرواد، مثل محمود حماد وادهم إسماعيل، وكان أول عمل قام به، تأسيس مراكز للفنون التشكيلية وللفنون التطبيقية في أنحاء  بلاده لصقل المواهب الفنية بشكل حر، ولكن الإنجاز الأهم كان في إنشائه المعهد العالي للفنون الجميلة عام 1959 الذي أصبح كلية تضم العمارة،.
في نطاق عمله ، تحمل مسؤولية تشجيع الفنانين وتوسيع نشاطهم عن طريق المعارض الجماعية والفردية , وعن طريق الاقتناء والتكليف, فعزز متحف الفن الحديث ووزع أعمال الفنانين في الدوائر والسفارات، وعرّف بها بكتب ومنشورات وبرامج إذاعية وتلفزيونية.

 وعندما شعر بتضخم مسؤولياته دعا إلى إنشاء تجمع للفنانين، وانتخب أول نقيب لإتحاد الفنون الجميلة. وكان هدفه تحقيق ديمقراطية النشاط الفني موازياً للدعم الرسمي.
  إن ما أنجزه في نطاق عمله الوظيفي مسؤولاً عن الفنون أولاً، ثم مسؤولاً عن الآثار والمتاحف أخيراً. ما زال ماثلاً يحمل أثره في المتاحف التي أنشأها وفي المكتشفات التي تحققت، وفي أعمال حماية الآثار وترميمها والتعريف بها عن طريق المعارض الأثرية الضخمة، التي جابت أنحاء العالم من اليابان إلى الولايات المتحدة مروراً بأوروبا، ولأول مرة أصبحت حضارة سوريا واضحة أمام ملايين المشاهدين مقروءة من خلال الكتب التي نشرت بلغات مختلفة، يعترف بعراقتها وأهميتها علماء الجامعات العالمية والباحثون. "

إنشاء الوزارة

في عام 1958 تحققت الوحدة بين سورية ومصر، وأعلن عن ولادة الجمهورية العربية المتحدة برئاسة الرئيس جمال عبد الناصر بعد أن تخلى شكري القوتلي عن رئاسة سورية وكان ينادي بالاتحاد الفدرالي مع مصر . ولأول مرة تحدث في الإقليم الشمالي وزارة للثقافة والإرشاد القومي تقابل وزارة مماثلة في الإقليم الجنوبي. ولقد اسندت الوزارة للأستاذ رياض المالكي شقيق الشهيد عدنان المالكي  وتربطني به قرابة وصداقة .وفي باريس حيث كنت أدرس في جامعة الصوربون إلى جانب أنطون مقدسي,  قابلني الصديق الدكتور عبد الله عبد الدايم وكان بمهمة، ونقل إلى رغبة الوزير المالكي أن انتقل إلى وزارة الثقافة  . وكان الدكتور عبد الدايم مديراً للثقافة فيها إلى جانب عالمين آخرين الدكتور إبراهيم الكيلاني والأستاذ عبد الهادي هاشم والأستاذ ناظم الحافظ , ونقل الدكتور يوسف شقرا أميناً عاماً في الوزارة  . هكذا أصبحت أصغر الزملاء سناً في وزارة  لا تضم أكثر من عشر موظفين. مستغلة بناء السفارة المصرية كمقر لها . ووضع المركز الثقافي التابع للسفارة المصرية تحت تصرف الوزارة ليصبح أول مركز ثقافي تابع لوزارة الثقافة وكان فيصل شيخ الار ض أول  مدير للمركز . ثم نقلت الوزارة الى بناء  لائق في شارع الروضة .
 في وزارة الثقافة المركزية في القاهرةا كان الصديق الدكتور سامي الدروبي  مديراً للثقافة ً   وكان الوزير المركزي العلامة ثروت عكاشة الذي زار دمشق قي العام الثاني للوحدة داعماً نشاطات الوزارة في كل المحافظات. وكانت بداية التعاون والصداقة معه وتبادل الآراء. وقد أهداني مجموعة من مؤلفاته الهامة، مما دفعني للكتابة عنه موسعاً في مجلة وجهات نظر في القاهرة. وفي الكتاب المخصص له والذي صدر في الكويت عام 1998.

أقيل الوزير رياض المالكي من منصبه بسبب خلافه مع رجل المخابرا ت المصري عدلي حشاد . وتعاقب على الوزارة عشرات الوزراء كان من أبرزهم الدكتورة نجاح العطار التي حققت إنجازات بارقة وتم في عهدها إنشاء بناء المكتبة الوطنية  وبناء دار الاوبرا وملحقاته. واستمرت في عملها ما يزيد عن ربع قرن ثم ( أصبحت نائب رئيس الجمهورية )


كان على الوزارة أن تحدد الأهداف وتنطلق لتحقيقها من نقطة الصفر . وكانت وسيلة ذلك إنشاء الفرق الفنية وإصدار ونشر المؤلفات التراثية والمعاصرة وتفعيل مجلة المعرفة التي استقطبت الكتاب والمثفين بإدارة الأديب فؤاد الشايب، وفيها شاركت بكتابة عشرات المقالات الفنية وحتى اليوم يديرها الباحث الأثري علي القيم.
وأرفدت الوزارة بعد ذلك بمجموعة من الشباب المبدعين اللامعين في وزارة الثقافة، كان لها الفضل في إرساء مسارات الفنون، ففي مجال المسرح كان رفيق الصبان قد نقل فريقه المسرحي المؤلف من نخبة المثقفين، إلى وزارة الثقافة لإنشاء إدارة المسارح وقيادة الفرق المسرحية التي استقطبت كبار الممثلين والمخرجين.
وفي مجال السينما، كان للناقد صلاح الدهني دور كبير في إنتاج أفلام رعتها الوزارة، وفي تطوير إدارة السينما وتحويلها إلى مديرية عامة أنتجت العديد من الأفلام ولقد غطى الدهني النشاط الإعلامي تغطية ناجحة.
وفي مجال الموسيقى كان صلحي الوادي قد ترأس منذ عام 1963 دائرة الموسيقى ثم قام بإنشاء المعهد العربي للموسيقى، واستمر بإدارته حتى بعد استلامه زمام المعاهد العالية الثلاثة، الموسيقى والمسارح والباليه. ويعود له الفضل بإنشاء الفرقة السمفونية وقيادتها. الناصعة
تعرفت على شقيقة صلحي الأديبة هبة وكانت قد تخرجت من الجامعة الامريكية في بيروت بدرجة الماجستير, وتم الزواج في حفل عائلي, وتوفيت أم إياد  وهي في أوج شبابها إثر عملية جراحية  قلبية في موسكو .وشيعت في دمشق بمشاركة واسعة . تاركة الأسى ومجموعة من آثارها الأدبية وترجماتها من الانكليزية المنشورة.

   الوظيفة والوجدان

" لا يستنكر البهنسي عمله الوظيفي الذي اختاره ليكون حقلاً لتنفيذ أفكاره وأهدافه في تعزيز الحركة الفنية, وتأسيس المعاهد والمراكز, وإنشاء المتاحف وترميم الآثار , والحفر في الأرض لاكتشاف الحضارة والفن والتاريخ.
  لم يكن مع ذلك موظفاً تابعاً ، وكثيراً ما كان يعلن في مؤتمراته الآثارية السنوية وفي مقالاته ،" إن رب العمل هو الوجدان " . وأنا أسمع كلامه هذا الذي أثار زوبعة من سوء الفهم، كنت أعرف أنه لا يعني الاستهانة بالسلطة بوصفها رب عمل ، بل يعني عدم وجود رب العمل الفعلي الذي يحرص على إنتاجية مصنعه (الدولة) كالوجدان ، ومع أنني أعترف أن الحديث عن الوجدان ليس سهلاً، فهو يتطلب انتماءً وطنياً مطلقاً وسلوكاً أخلاقياً مثالياً ، فإنني أرى معه أن رب العمل الحقيقي ليس المدير أو الوزير، بل هو الوجدان، الوجدان الذي يدفع بالمقاتل أن يضحي بروحه ودمه من أجل الكرامة والحرية والشرف. ولعل صاحبي كان يحمل بين جنبيه أثناء عمله مشاعر الجندي في ساحة الشرف.  يدفعني إلى هذا التشبيه ما قرأته في مقالاته في جريدة الثورة أيام حرب تشرين التي تغنى بالنصر فيها. "

في مديرية الفنون الجميلة

 في مجال الفنون الجميلة التي أديرها، كان علينا تنظيم المعارض السنوية والدورية وبخاصة الأجنبية الوافدة، وإرسال معارض خارجية، وتأسيس مراكز للفنون التشكيلية والتطبيقية، وأقامة النصب والتماثيل,  مثل تمثال العربي الثوري من عمل الفنانين محمود جلال وعبد السلام قطرميز و وديع رحمة , وتمثال المعري لفتحي محمد , وتمثال شهداء عامودا لمحمود جلال , وتمثال أبي فراس الحمداني للنحات جاك وردة في حلب ,وتمثال العامل لنشأت رعدون ,وتمثال الرئيس حافظ الأسد في الطبقة من مادة البوليئستر .
كان عملي كمدير للفنون الجميلة منسجماً مع رسالتي في توسيع نطاق الحركة الفنية التشكيلية. . في إعداد برامج إذاعية ثم تلفزيونية مخصصة للفنون الجميلة وفي دعم المكتبة العربية بالمصادر والمراجع الضرورية لرفد الثقافة الفنية، وكان مشروعي منذ البداية أن أدعم حركة تأصيل الفن بإبراز جمالية متميزة للفن العربي القديم كي تكون عوناً للفنان المعاصر في تعميق الهوية العربية في الفن الحديث.وكان يساعدني لأداء مهامي فنانون أصدقاء رشحتهم للانضمام إلى المديرية , جاك وردة-عبد القادر أرناؤط-هشام زمريق-غازي الخالدي- طارق الشريف – د. قتيبة الشهابي - سعيد نصري- عبد السلام قطرميز- خيري صدقي – فهد جباصيني ..
وأهم المنجزات في مديرية الفنون الجميلة إنشاء مراكز للفنون التشكيلية والتطبيقية تعمل على احتضان المواهب لتقويتها وتمكين المنتسبين إليها لصقل ملكاتهم وهواياتهم الفنية، ولقد استفاد خريجو هذه المراكز بعد حصولهم على الإجازة بممارسة الفن. وتوسع عدد هذه المراكز في جميع أنحاء البلاد، ومازالت موئلاً للطلاب الذين آثروا ممارسة الفن بصورة حرة بعيداً عن الشروط الجامعية ومن أبرزهم العقيد وليد عزت  والمهندس وليد سيروان , وكان للزميلين غازي الخالدي وطارق الشريف  دور كبير في إنجاح مهام هذه المراكز.

لم يكن الهدف من إدارة الحركة الفنية إنجاز عمل مكتبي، بل كان تحقيق رسالة تساعد في خلق نهضة فنية على الساحة العامة، وتجلت هذه النهضة في إحداث المراكز وإحداث كلية الفنون الجميلة
لا يكون العمل الإداري ناجحاً لمجرد حسن  تطبيق القوانين والأنظمة والبرامج، بل لا بد من احترام حقوق جمهور المتعاملين خارج الإدارة في تحقيق مكاسب عامة وبخاصة في قطاع الخدمات وهو قطاع وزارة الثقافة.




ما زلت اعتز بتكريم السيد الدكتور رياض نعسان آغا وزير الثقافة في حفل شارك في عشرات المفكرين ,تم افتتاحه بكلمته التالية
لا أدري أية كلمات توفيك حقك يا سيدي، وأنت الذي أنفقت عمرك تخدم وطنك .  حسبك أن أقول لك، باسم شعبك وباسم الحكومة العربية السورية، شكراً لك لأنك دفعت لبلدك وأخلصت، وكنت ومازلت مثالاً يحتذى به، تتطلع إليه الأجيال الشابة , وتنهل من معارفك وعلمك سائرة على خطاك تتطلع إلى الأفق القريب في أن تستعيد الحضارة العربية والإسلامية مكانها تحت الشمس.

No comments:

Post a Comment

Note: Only a member of this blog may post a comment.