منذ
الخامسة من عمري كنت طالباً في مدرسة الحضانة الوحيدة في دمشق، والقائمة في بناء
زيوار باشا الذي استعمل مدرسة للطب عام 1908 ثم أصبح ثانوية للإناث، قبل هدمه
وبناء مدرسة تجارية للإناث فيه. وكان من رفاقي صميم الشريف ( العالم الموسيقي )
وبشير زهدي (أمين المتحف الوطني ) ونجاة علبي ( الخطاط المعروف ),تحنو علينا معلمة
قديرة هي منيرة المحايري .
كان في
دمشق عدد محدود من المدارس الابتدائية منها مدرسة عرنوس، ثم كان بناء مدرسة
التطبيقات المسلكية جزءً من بناء فخم أنشئ في عام 1936 واستعمل أولاً لإقامة معرض
دمشق الدولي وسوقها وهو من تصميم المهندس المعمار اللبناني يوسف افتيموس وأشرف على
تنفيذه رئيس مهندسي الأشغال العامة سليمان أبو شعر, حسب الطراز المعماري العربي
الحديث , وأعيد بعد انتهاء المعرض لوظيفته التعليمية تحت إسم المدرسة التجهيزية ثم أصبح اسمها مدرسة جودت
الهاشمي تخليداً لإسم مديرها القدير الأول.
وفي
مدرسة التطبيقات أمضيت عامين، وكان مديرها رمزي الركابي، وكان أستاذ الرياضة فيها
أكرم العجة الذي فارقنا عام 1938 إلى فرنسا، ليصبح بعد ذلك من أكبر الأثرياء في
العالم. وليتزوج من ناهد إبنة جارنا العماد مصطفى طلاس وزير الدفاع .
ومن
الرفاق غياث الكيالي(إبن الوزير عبد الرحمن ) وغسان الإلشي (إبن الوزير جميل )و مجد
قاوقجي( إبن المجاهد فوزي) و منير الأطرش (شقيق المطرب فريد ) . ثم نقلت الى مدرسة
هنانو وكان مديرها ياسين الحموي وأستاذنا أنور الرفاعي ومن الطلاب عصام العطار
الزعيم الديني وشقيق الدكتورة نجاح العطار .ومن هذه المدرسة حصلت على الشهادة الابتدائية
(السرتفيكا ) . وكان الفحص كتابياً وشفاهياً أمام لجنة من الاساتذة .وتشكلت فرقة كشفية عامة يرأسها بكري قدورة تحت رعاية القائد العام علي عبد الكريم الدندشي تضم طلاب المرحلة المتوسطة في دمشق. وقد مضينا في رحلة إلى لبنان وتدمر وتل كلخ, لأول مرة في حياتي .
انتزاع من حضانة الأم
لا بد
أن أعود في ذاكرتي إلى مدرسة التطبيقات، لكي أقف قليلاً عند مشهد لن أنساه عندما
كنت طالباً في السنة الثانية الابتدائية،.
في هذه
المدرسة وفي صبيحة يوم أغبر جاءت أمي إلى المدرسة لتخبرني أن والدي قد طلقها وأنني
سأنقطع عنها لأكون في حضانة والدي في بيت الشعلان بينما سيبقى أخي خالد في حضانتها
في بيت حي الشهداء.
كان
وقع هذا النبأ ورغم حداثة سني عميقاً في نفسي، ومازلت أشعر بآثاره كزلزال لم يهدأ
أبداً، لقد كانت أمي سيدة نساء العالم في نظري، ولقد هدّ هذا الحادث كياني دون أن
أستطيع صده أو التخفيف منه، ومازلت أشعر بالذنب لأنني لم أتدارك ما حدث رغم عجزي.
وأحزنني
وفاة أمي أم عفيف خلال غيابي في بلغاريا
,تاركة أخي خالد وأختي ماجدة بلوعة المفاجأة لموتها المبكر .
كم راعني
أن ألتقي أمي التي أحببتها.. طليقةً من عرسها
كئيبة.... ترنو إلى وجهي الصغير تستجير من سوء حظها
خذلتها..... فلم أكن إلا صبياً
قاصراً عن نجدة. سعيتها
أمضيت
عمري، لم أزل معذباً أمشي يتيماً باحثاً
عن عينها
ناديتها
في قبرها , ولم أكن مستغرباً فالظلم كان قبرها
ما متِّ
يا أمي فما أمومة
للموت حقٌ في اخترام رسمها
يا
أمتاه.... في عروقي شحنة من الأسى..
عميقة أحزانها
أبيات
من قصيدة نشرتها في ديواني «أبيات على صفحة الجب
متابعة الدراسة
كان عليّ أن أتابع
دراستي الإعدادية في مدرسة التجارة في مقرها القديم في البيمارستان (المشفى) الذي
أنشئ في عهد السلطان نور الدين بن زنكي. وكان من أساتذتي الشاعر أنور العطار،
وأستاذ اللغة العربية شكري فيصل، ( عضو مجمع اللغة العربية ) وأستاذ المحاسبة رفيق
السيوفي( الامين العام لوزارة المالية )، وأستاذ الرياضيات نصوح الدقاق (حاكم
المصرف المركزي ) , وكان للشاعر العطار تأثير
كبير على مجرى حياتي الدراسية والأدبية. ومن رفاقي عبد
الرحمن خليفاوي (اللواء رئيس الوزراء ) .
على جدار إيوان المدرسة كتبت ( سأحصل على أعلى
الشهادات ) .
ووفاء
لهذا البناء التاريخي . قمت بإخلائه وترميمه ليصبح متحفاً للطب والعلوم , عندما
أصبحت مديراً للآثار .
عندما
حصلت على الشهادة المتوسطة، كانت قد أحدثت مدرسة دار المعلمين ومديرها خالد شاتيلا، وكان مقرها في بناء المدرسة
التجهيزية أيضاً، فانتسبت إلى هذه الدار التي كانت تضم كبار الأساتذة، من أمثال
عمر شخاشيرو للغة الفرنسية، وخلدون كناني للغة العربية، ونظيم موصلي للاجتماعيات،
ومن زملائي سليمان الخش (وزير) ومحمد الشماع (قاضي شرعي). وأشهد أن مستوى التعليم
فيها كان جامعياً. وأذكر أن الرئيس شكري القوتلي زارنا ذات مرة، وكان الموصلي
يتحدث عن الثورة الفرنسية، وبوصفه شيوعياً كان يغمز أمام الرئيس القوتلي من قناة
البرجوازية.
في
السنة الثانية من دراستي في دار المعلمين حصلت على الشهادة الثانوية مع صديقي حسني
الحريري الموسيقي , بعد دراسة مشتركة حيث
أمضينا العطلة الصيفية في معسكر كشفي في مصيف الصلنفه بقيادة أنور تللو، وكان
جيلنا يعاني من الظروف القاسية التي مرت بها الأمة العربية بعد أن أعلن عن تقسيم
فلسطين في 29/11/1947، ثم ظهور دولة إسرائيل .
وفي
السنة الثالثة دخلت كلية الحقوق مع الصديقين القريبن سعيد البهنسي وعادل صدقي ونجحت فيها إلى الصف الثاني، كما نجحت متفوقاً
في الحصول على شهادة دار المعلمين. وعينت معلماً في مدرسة معاوية .
في
السنة الثانية من دراستي في كلية الحقوق نقلت معلماً في مدرسة هنانو. وفوجئت قبل
امتحان نهاية العام بفصلي مع مجموعة من الطلاب من الكلية بسبب ممارستنا العمل
الوظيفي مع الدراسة. ولقد أنقذنا من هذا الفصل المفاجئ قائد الانقلاب حسني الزعيم
في ذلك الوقت. فلقد قمنا مع الزميل هاني مبارك
بزيارته التي استقبلها بترحاب، وأعطى أمره الفوري بإلغاء الفصل. وكان الزعيم قد
انقلب على النظام الدستوري في 30/3/1949.
كان عميد
الكلية سامي الميداني و من أساتذة الحقوق عبد الوهاب حومد ومنير العجلاني وأحمد
السمان ومعروف الدواليبي ( أصبحوا وزراء ). وكان تخرجنا عام 1950في عهد الدكتور
قسطنطين زريق رئيس الجامعة الذي قرر أن يكون احتفال التخرج بالروب الجامعي. وفي
حديقة كلية الحقوق الواسعة، حضر الحفل الخريجون من جميع الكليات، وجلس الأساتذة
والوزراء إلى جانبي رئيس الجمهورية أديب الشيشكلي الذي أحدث انقلاباً في الحكم
بتاريخ 19/12/1949. وكان من خريجي كلية الطب نور الدين الأتاسي( أصبح رئيس دولة )
الذي هاجم الشيشكلي بصوت عال، مما أحدث ارتباكاً أمنياً وتم اعتقاله. وتابعت أجهزة
الأمن ملاحقة المثقفين التقدميين وكنت منهم.
بعد
اكتمال دراستي الجامعية تابعت التخصص في الحقوق الإدارية .
ولا
بدّ أن أعبر عن صادق احترامي لجميع الأساتذة والمعلمين , الذين أنفقوا عمرهم في
بناء أجيال الطلاب من أمثالي .
ياسيدي ما زلتَ تمشي واثقاً وشامخاً في عزّةٍ نرنو إليكْ
ما زلت شيخاً عالماً , معلماً تبدي جواباً لم يكن صعباً عليك
علمتنا الاخلاق كنتَ واعظاً دفعتنا الى العلى براحتيك
كم من سنينٍ صعبة قضيتَها في صفنا , وصعبنا سهلٌ عليك
رعيتنا كفلزة , كصبوة حلمتها كثروة , ملكاً لديك
قد كنت فينا قدوةً ووالداً ولم تكن معاتباً لجاحديك
بل راعياً طموحنا وواثقاً من فوزنا مستقبلاً على يديك
من ديوان أناشيد للوطن
شاهد على عصر الشباب
الدكتور سامي عصاصة
لابد أن أشير بالبنان، بإصبعِ الاحترامِ والودِ إلى
الرجل الشمولي، عالم الآثار، الأديب الشاعر الفنان المفكر والإنسان عفيف البهنسي . هناك جانب أعتقد أني سأتفرد بالتطرق إليه. اخترته لأنه
بسيط وعفوي وصادق. سأتحدث عن الشاب عفيف البهنسي الذي ما زلت أذكر صورته المطبوعة
في ذاكرتي عندما كنت أمارس ألعاب الشقاوة مع أقراني في حارة عصاصة بالمقربة من
جامع الشنواني ومسجد الشعلان ووزارة الصحة.
اخترت أن أصف عفيف البهنسي الشاب الوسيم الهادئ. وإني إذ
أنسى فلن أنسى تميزه بلباسه الأنيق
وبحذائه اللماع النظيف في كل وقت وتسريحته الناعمة الجميلة. كان راقياً بدون بذخ ,
وكان وضاء الوجه بدون شحومٍ أو دهون تعلو بشرته. كان عفيف عندما يمر بنا نحن
الأولاد الطائشين الذين يلعبون الدحل الذي كنا نسميه " الكاظوظ" , أو
عندما نتراشق الفطبول (كرة القدم) , نتهيب مروره بالقرب منا فتخفت أصواتنا الصاخبة
ريثما يمر بصحبة أصدقاء له , أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الأديبين
الباحثين المفكرين الأستاذ مطاع الصفدي الذي كان يحمل آلة الكمان ذاهباً إلى
النادي الموسيقي قرب بيته عند بستان
السبكي أو عائداً إليه. والأستاذ صميم الشريف، المفكر الهادئ الذي لا يثور مهما
احتدم النقاش. كان هؤلاء أثناء سيرهم يتابدلون أحاديث فكرية بينما كنا نحن في عالم
الدحل والفطبول. وكنا نحترمهم فنهدأ ريثما يمرون لنعود بعدئذ إلى شقاوتنا.
السيد سامي عصاصة باحث لامع أذكره يافعاً وأعرف أكثر
أفراد أسرته , يعيش في المانيا مغترباً منذ ثلاثين عاماً . في مداخلته اللطيفة
أعود لذكريات الشباب المبكر حيث كنت أقضي ساعات الاستراحة في مقهى هافانا الواقع
في بناء النادي العربي في طريق الصالحية, حيث يلتقي المثقفون الشباب ,و المقابل
لمقهى البرازيل الذي يرتاده رجال الصحافة والفكر.
في مقهى الهافانا كان للاستاذ زكي الأرسوزي مكان ثابت
يرتاده كل يوم , وكنا مجموعة من الأصدقاء مطاع صفدي وعلي جبر وجلال فاروق الشريف
وأنا نتحلق حول الأستاذ نستمع إلى آرائه في القومية العربية بلهفة وتقدير .
ومع أصدقائي وبخاصة مطاع صفدي كنا نتابع البحث في
الفلسفة والتاريخ بحضورمحاضرا ت الدكتور قسطنطين زريق والدكتور بديع الكسم في كلية
الآداب . وتابعت هواية الاستماع لروائع الموسيقى العالمية مع أصدقاء من أبرزهم صمبم الشريف وعدنان الركابي إبن رضا باشا وكان
يدير نادياً للموسيقى مع فريق من الهواة منهم الاستاذ مطاع صفدي والدكتور صادق
فرعون وقد أتقنا العزف على الكمان هواية وليس احترافاً.
وفي مجال الفن التشكيلي وكنت أمارسه منذ أن كنت يافعاً بتوجيه الفنان ميشيل كرشه , شاركت بتأسيس جمعية أصدقاء الفن مع الفنانين محمود حماد وصلاح الناشف وأدهم اسماعيل ومحمود جلال وجاك ورده والسيدة منور مورلي, نمارس إقامة المعارض ونعلم التصوير مجاناً للهواة .
في
بستان أخضر في منطقة الهامة قريباً من دمشق , كان ثمة منزل بسيط يملكه الشاعر
الفيلسوف عزمي موره لي خال ناديا الغزي ,صديقنا الحميم أنا ومطاع , حيث نقضي معه
أمسيات فكرية ونقاشات حادة أحياناً , وقد يشاركنا زائرون من أمثال الشاعر العراقي
بدر شاكر السياب , والأستاذ الفيلسوف بديع الكسم , والشاعر اللبناني خليل حاوي ..
ذكريات جميلة للواقع والتاريخ السوري توضع في متداول من يريد البحث كم نحن بحاجة لهذا .شكرا لك
ReplyDeleteد.مهندسس طريف السيوفي
ذكريات جميلة للواقع والتاريخ السوري توضع في متداول من يريد البحث كم نحن بحاجة لهذا .شكرا لك
ReplyDeleteد.مهندسس طريف السيوفي